"نداء بوست" – أخبار عامة – بريطانيا
سلّط تقرير نشرته وسائل إعلام الضوءَ على ما يربط الإنسان بالإنسان من حيث الجِينات، وليس كما هو متعارَف عليه في صلة القرابة.
ولفت التقرير إلى أنّ "تلك التجعيدة بجوار العين التي تميز ابتسامة الشخص الذي تحبه؛ هي إرث قد يعود عمره لآلاف السنين؛ وقد ورثه هذا الشخص عن أحد أسلافه القدماء، والذي لم يقابله في حياته من قبل، ولكن تجمعهم صلة أقوى من صلة القرابة المتعارَف عليها في مجتمعنا الآن؛ وهي الصلة الجينية".
وبحسب عِلْم الوراثة فإنّ "الجينات بمثابة خريطة أساسية تخزّن المعلومات الوراثية للكائنات الحية، ويقع عليها عبء بناء الخلايا البشرية ومساعدتها على أداء الوظائف الحيوية في بناء أجسام الكائنات الحية، بجانب تميُّز كل كائن عن الآخر".
وفي ظلّ التطور الحاصل في العالم، بات التعديل الجِيني ممكناً، والذي يطبق بالفعل على النباتات والحيوانات تحت بند التهجين، وبدأ البعض في تطبيقه على البشر؛ وربما تجد المثال الأكبر على هذا الأمر هو الدراسات التي تُجرى حالياً عن إمكانية التحكم في لون شعر أو عين الأطفال وهم في أرحام أمهاتهم؛ عن طريق التعديل أو التلاعب في الخريطة الجينية للجنين.
ويحتوي الجسم البشري، وفقاً للتقرير، على العديد من الجينات، وكل جِين منها مسؤول عن صفة شخصية أو تشريحية فيه، والمجموعة الكاملة لجِينات الشخص هي ما تكوّن الحمض النووي «DNA»؛ بمعنى أن الجِين هو وحدة بناء الحمض النووي للبشر.
في هذا السياق، يحاول البعض تبسيط شرح الحمض النووي بكونه "وصفة طَهْيِ" البشريِّ؛ بمعنى أن خريطة الجِينات الخاصة بك هي بمثابة المكونات المجردة التي حين تمتزج تُخرجك على الشكل البشري الذي تراه في المرآة يومياً، ولكل شخص مِنّا وصفة طَهْيٍ خاصة به يتميز بها عن مليارات البشر في العالم، والكثير من الدراسات أثبتت أن الجِينات تتوارث وتتطور وفقاً للبيئة التي يحيا فيها الإنسان لفترات طويلة.
ولكن هناك اتفاق عامّ على أنّ الجِينات تمتلك القدرة على التوريث، وهو ما يعطي احتمالاً أن يكون الإنسان قد ورث جِيناً من شخص عاش منذ آلاف السنين، ولكن هذا الجِين الجيد وجد طريقه واستطاع أن يتطور وينتقل عبر مئات وآلاف الأجيال. ولعدة قرون سعى العلماء لإيجاد طريقة بيولوجية لتتبع الأصل الجغرافي للإنسان، وفي عام 2014 طوّر مجموعة من الباحثين اختبار النسب الوراثي الذي يمكنه تحديد الموقع الذي نشأ فيه أسلاف الشخص منذ أكثر من ألف عام.
عالم الوراثة السكانية عيران الحايك أكّد أن الحمض النووي للشخص يمكن تحليله ليحكي لنا قصة تطوُّر أسلافه وهجراتهم وتهجينها، بالترتيب وكأنها خريطة جغرافية تراها أمام عينك ولكنها مرسومة بالجينات.
ثمّة حدث لافت، حيث وجد بعض الباحثين في أواخر عام 2016 فجوة في الخريطة الوراثية للحمض النووي للميلانيزيين، وهم الأغلبية العظمى التي تعيش في جزيرة غينيا الجديدة، والسكان الأصليون لأستراليا.
وانقسم البشر الأوائل، قبل 39 ألف عام إلى نوعين هما: البشر المنقرضون الأوائل، وإنسان دينيسوفا، وما أظهرته الحفريات الأثرية وتحليل الحمض النووي عليها؛ أن البشر جميعاً تعود أصولهم الجغرافية إلى إفريقيا حيث هاجرت تلك الأنواع قديماً.
ورجح العلماء أن "البشر المنقرضين الأوائل" و"إنسان دينيسوفا" الذين عاشوا في إفريقيا؛ هم أصحاب الأصول الجِينية لكل البشر.
ولكن الفجوة الجينية التي وجدها الباحثون في الخريطة الوراثية للحمض النووي للميلانيزيين كان لها رأي آخر؛ وهذا حين أكدت وجود سلف ثالث لهؤلاء البشر لم يكن ينتمي قط لإفريقيا؛ فمن أين أتى هؤلاء البشر؟ هذا ما عكف العلماء على دراسته منذ أن كُشف عن الخريطة الجينية للميلانيزيين.
وقد نُسجت بعض النظريات غير الموثقة حول السكان الأصليين لأستراليا؛ حتى عام 2018 حينما ظهرت الدراسة التي أجريت تحت إشراف جامعة كامبريدج، والتي يتفق على نتيجتها الكثير من العلماء، وتلك الدراسة أجراها فريق دولي من الباحثين عن طريق استخراج الحمض النووي من لعاب 83 شخصاً من السكان الأصليين الأستراليين، و25 شخصاً من الميلانيزيين سكان جزيرة غينيا الجديدة، وتحليل معلوماتهم الوراثية الكاملة في دراسة موسعة.
ما تشير إليه هذه الدراسة أن الفجوة التي وجدت في الخريطة الجينية لهؤلاء البشر؛ ترجح حدوث انفصال بين البشر قبل ما يزيد عن 50 ألف عام؛ حيث انعزلت مجموعة وهاجرت إلى شبه قارة تعود إلى عصور ما قبل التاريخ ويُطلق عليها اسم «ساهول» والتي تتألف الآن من أستراليا وغينيا الجديدة.
وفي ذلك الوقت -وفقاً للدراسة- أصبح الأستراليون الأصليون معزولين وراثياً؛ الأمر الذي يمنحهم حق استرداد عرش أقدم الأصول الجينية البشرية من الأفارقة، والجلوس عليه؛ ليصبح السكان الأصليون لأستراليا أقدمَ حضارة بشرية للعالم؛ والأهم أنه يُثبت وجود نوع ثالث منقرض من البشر لم نعرفه من قبل أبداً، ولم نجد له أي حفريات حتى الآن، وهذا ما تحاول تلك الدراسة إثباته.
قال آنا مالاسبيناس، أحد أهمّ العاملين على تلك الدراسة وأستاذ مساعد في جامعة كوبنهاجن: إنّ التنوع الوراثي لدى هؤلاء البشر مُذهل؛ فهناك ما يزيد عن 250 مجموعة عرقية منتشرة في تلك المنطقة -أستراليا وغينيا الجديدة- وهم من يُطلق عليهم الشعب الميلانيزي، وتشمل خصائصهم الفيزيائية بَشَرَةً داكنةً، وشعراً يتدرج ما بين البني والأشقر وأنفاً طويلة دقيقة، وأعيناً عادة ما تكون ملونة.
وعلى الرغم من أن الشعب الميلانيزي يتحدث لغة واحدة وهي اللغة البابوية إلا أن هناك أكثر من 270 لغة منتشرة في جميع أنحاء المنطقة مشتقة من اللغة البابوية؛ تلك اللغات ابتكرها هذا الشعب الفريد وفقاً لاستخدام كل مجموعة للألفاظ والكلمات.
وهذا الشعب لا تميزه جيناته فقط، بل تميزه ثقافته المختلفة والمنعزلة عن العالم الحديث؛ فلديهم على سبيل المثال طقس يسمى قطع الأصابع لدى واحدة من القبائل تُدعى قبيلة داني، وهو إحدى وسائل الحداد على الموتى، وحين يُتوفى والد أحدهم؛ يقطع الابن أحد أصابعه تعبيراً عن الحزن على والده، والأنثى تقطع أصابعها حزناً على زوجها وهكذا.
ولا تزال الدراسات الجِينية على هؤلاء البشر مستمرة؛ للإجابة عن عدة تساؤلات أهمها: من أين أتى هؤلاء البشر؛ وإلى أي سلف ينتمون؛ ما دامت جيناتهم لا تنتمي للأسلاف البشرية المعروفة للعلم -وهم البشر المنقرضون الأوائل، وإنسان دينيسوفا، فهل تعيد تلك القبائل كتابة الخريطة الجِينية للبشر من جديد؟