لا تطفئوا أنوار البيوت…
من المثير للدهشة أن أقصد ألا نطفئ الكهرباء، فقد باتت نادرة! وقريباً قد تصبح على بطاقة ذكية تعمل بالطاقة الشمسية، وربما ستُفرض عليها ضريبة رفاهية!
لا تطفئوا النور، فقد باتت البيوت في عتمة! والشوارع تزداد كآبة، والنور هنا دلالة فارقة وراية هداية وقت العتمة، عتمة انحلال الأخلاق وانحدارها للدرك الأسفل، وعتمة الاستبداد والقتل المجاني والفساد وإطباق الأجهزة الأمنية وقوى العسكر من كل الصنوف والأجناس على الحياة، وليتها بقيت جهازاً مركزياً واحداً، بل كل جهاز منها بات دويلة على مقاس رئيس وأمير حربها يُطْبقون عليك من كل الجهات، عتمة لا تضاهيها عتمة.
في الأعوام الأخيرة بتنا نفتقد النور رويداً رويداً، أنوار تنطفئ ببيوت كانت مسكونة بكل ألوان الحياة، أطفال ونساء وتاريخ، فتصحو في اليوم التالي ولا تجد لها أثراً، فقد مضت في رحلة جماعية للتهجير والترحيل!
وأنوار تنطفئ انتقائية، بيت هنا وبيت هناك، تنطفئ واحدة تلو الأخرى، في رحلة طوعية للهجرة فقد ضاقت البلاد بالعباد…
وأنوار تنطفئ قهراً، تموت النفوس كمداً، تنطفئ شعلة الشباب بجلطة دماغية أو سكتة قلبية…
والنور الأشد ألماً إطفاؤه هو نور القلوب والأمل والأمانة، إذ باتت تتكاثر النماذج الفردية للحل، وليتها تتوقف هنا، بل ترافقها حالات النكران متعددة الأوجه لكل ما هو ثمين وطنياً ووجدانياً، لكل قيمة إنسانية، لميزان الحق، لقيم الثورة، حين كانت الثورة شعلة حرية وكرامة، لكنها اليوم باتت رمادَ جثثٍ ونفوس!
لم يَعد مستغرباً شيء في هذه البلاد، وكأنّ ثقباً أسود بات يحكمها بجاذبيته اللانهائية… والثقب الأسود معروف أنه حدث فيزيائي ناجم عن انفجار أو استعارٍ فائق لنجم في السماء تسمى ظاهرة “السوبرنوفا”. وتلك الظاهرة العلمية المدهشة التي لم يكتشفها علماء القرون الوسطى، لأن الأوروبيين وقتها -حسب شولدن غلاشو أستاذ الفيزياء النظرية في جامعة هارفرد- كانوا منشغلين في عدّ الملائكة التي ترقص على رأس دبوس!
لانفجار النجم كمستعر فائق حالات ثلاث: إما أن يشكل ثقباً أسود يشد بجاذبيته المعتمة المجرات والكواكب ويلتهمها في داخله، ويبدو هذا حال ديارنا اليوم! أو تتكدس المادة كنترونات معتدلة على بعضها، بعد أن تكون حرارة الانفجار قدر جردتها من شحناتها المختلفة، وتنكمش لدرجة القزمية بلا شحنات موجبة من البروتونات أو الإلكترونات السالبة ذات الفاعلية في التأثير المتبادل كهربائياً أو مغناطيسياً، فتستحيل قزماً أبيض متلألأ لكن بلا فعالية، وهذا حال السياسة في ديارنا معارضة وسلطة بآنٍ، إذ لا فعالية ولا جدوى تُرتجى بعد أن فقدت قرارها الوطني وباتت رهينة ولعبة بيد كل عابث من السياسات الدولية فينا وبديارنا…
أما الحالة الثالثة، فهي الانفجار الكبير وعودة تشكل الحياة من مكوناتها الأولى، مكوناتها الأولى ليست مادة وفقط، كالإلكترونات والبروتونات والنترونات التي تشكل أولى مكونات الذرة، بنية المادة الأساسية، بل بطاقة ترابطها أيضاً، وحيّزات تموضعها وبداية تمايز اصطفافها كمومياً موادَّ مختلفة بصفاتها عن بعض، إذ تبدأ بتشكيل نَوَيَات الحياة الأولى باختلافاتها وتمايزاتها وقدرتها على التفاعل الحيوي والطبيعي أيضاً… وتلك هي حال الثورة، وأحلام ورؤى جيل الشباب وأصحاب الوجدان من الثورة الذي لم يشتد عوده بعد، وربما قد تم هدر كل تضحياته وانفجاراته الكبرى. فسلاطين السياسة كانوا يعدّون السلطات وشهواتها، ويتقاتلون ويتنافسون على تقاسمها على رأس دبوس! عجباً وكأنّ ساسة القرن الواحد والعشرين في بلادنا لم يرَوا الثورة وتحدياتها الكبرى وما يمكن أن تقدمه للتغير الممكن والجماعي إذا ما توافقوا على إنتاج عقدهم الوطني والاجتماعي أولاً بغية الوصول للتغير السياسي، ومن ثَم يختلفون بعده بأدلجاتهم وأحزابهم بكل الطرق السلمية المتاحة! فكانوا كما أباطرة وقساوسة الدين في قرون أوروبا الوسطى منشغلون برأس الدبوس!
لا غرابة أن تسمي أوروبا العصرية ذلك الزمن بعصر الظلمات، والإدهاش هنا أن أنوار ديارنا تنطفئ رويداً رويداً بما يَشي بدخولنا في عصر الظلمات، هذا إن لم نكن قد دخلناه منذ قرون، واشتدت ظلماته في عقود سلطات المشرق القهرية السياسية، وهذا تاريخ مكتوب!
امتازت السياسة في بلادنا بقدرتها الفذة على إطفاء أي نور: أنوار العلم والعلماء وقتلها في السجون أو الطرد من وظائفها، وإحلال محلها من هم أصحاب الواسطة بلا كفاءات سوى أنه قريب فلان! أنوار الثقافة والفكر وزج أصحابها في المعتقلات بحجة معاداة الاشتراكية والعمل على وهن شعور الأمة ووجدانها القومي الوحدوي! وسلطاتها تقتل فيما بينها سياسياً وتتبادل طرد السفراء وليس فقط، بل دخلت في حروب العسكر ضد بعض، ولا زال العراق ولبنان شاهدين حيَّين على نماذج وحدتها الخادعة، وسورية اليوم أيضاً. أنوار النزاهة والأخلاق والفكر التحرري واستبداله بنماذج الوساطة والفساد والرشوات وصفقات
الأجهزة الأمنية في بلعمة اقتصاد الدولة تحت عنوان الاقتصاد الاجتماعي، والتضييق على أصحاب رؤوس الأموال من البرجوازية السورية وطردها نتيجةً تحت عنوان التأميم… هذه لم تكن سياسة بل برامج مقنّنة لهدر كل مشاعر ووجدان البشر حتى تصبح مِطواعة وعبدة لسياسات الأمر الواقع، وإلا فالمعتقلات وتهم التخوين الجزافية!
“بيان” مواطن سوري لا زال حياً لليوم، كان رجلاً عسكرياً في مقتبل العمر حين اعتُقل لمدة طويلة، لأنه احتج على مشاركة سورية في حرب العراق الأولى 1991، حين أفرج عنه وعاد لقريته كانت الكهرباء مقطوعة في يوم من أيام الشتاء القارس بليله الدامس، وكانت معالم القرية قد تغيرت فلم يتعرف إلى بيت أهله! لكن شيئاً ما جعل قلبه يتحرك، ومن بعده قدماه، باتجاه ضوء خافت ينبعث من منزل متطرف. طرق الباب في هدوء فأتاه صوت عجوز يسأل: من؟ بيان؟ دهش من الصوت فقد عرفه، هو صوت أمه! فقال والنشيج يقطع صوته: بيان يا أمي إيه بيان…
وكأن نوراً اجتاح المكان وتردد صدى صوتها المتحشرج بالبكاء: تركت لك ضوء “الكاز” طوال فترة غيابك حتى تهتدي للبيت حين تعود، وكنت واثقة أنك ستعود… فاض قلبها حنيناً وعيناها دموعاً قبل أن تحتويه أحضانها. ولا زال لليوم ضوء بيت أم بيان، وآلاف الأمهات، وبيان بذاته، ضوءاً نستدل منه الثقة على الاستمرار رغم كل كوارثنا، لكنه بات نادراً، أو قليلاً!
حمل الفلسطيني معه مفتاح داره وبات رمز العودة وعنوان يوم الأرض، والسوريون اليوم يحملون ضوء قلوبهم، أو المتبقي منه، رمز قدرتهم على الصبر ومغالبة آلام المسار الطويل وهول العتمة، وشدة جاذبية الثقب الأسود للتهالك والنهاية. فلا زال ثّمة إمكانية لاستحداث طاقات مختلفة تعاند مسار الانحدار هذا، بسياسيه وأمراء حربه، بالمطبلين والمزمّرين لوهم الانتصارات الزائفة، لعتمة الأيديولوجيات المتهالكة، فلا زال درب النور طويلاً، لكنه درب شاق لا بد من تجاوز ثقوبه السوداء السياسية والعسكرية والأيديولوجية حتى ندركه آخراً…
Author
-
كاتب وباحث سوري، حاز درجة دكتوراه في الفيزياء النووية منذ عام 2008، له عدد من الأبحاث العلمية المنشورة، وعدد من المقالات