“نداء بوست” – ستراسبورغ (فرنسا) – زويا بوستان
أن يذهب المرء في مدينة ستراسبورغ إلى معرض يحمل عنواناً لافِتاً هو: “الشرق غير المتوقع، من الراين إلى السند”، فهذا يعني قليلاً من التوقعات، متصلة بالمعارف المسبقة، وبالتنميط العامّ، وبصورة الآخر في الثقافة المحلية!.
مثلاً، يمكن التفكير بالعلاقة بين الواقع الراهن، وبين الماضي، إذ يحمل هذا الأخير تصوُّرات غرائبية عن الشرق، مرتبطة بعوالم السحر، وبألف ليلة وليلة، بينما يقدم الحيِّز المكاني الخاصّ في العاصمة الأوروبية تصوُّراً مختلفاً، حيث لا يعرف الفرنسيون الألزاسيون عن الشرق سوى ما تحمله لهم نشرات الأخبار من فَواجِعَ وكوارثَ، أو من يشاهدونهم من اللاجئين أو المهاجرين القادمين من مناطق الصراع، أو المناطق التي تعاني من مشاكل حادة، فيصادفونهم في وسائل النقل العامة، يتحدثون على الهواتف بأصواتهم العالية وبلغاتهم المحلية، أو يلاحظونهم في مجمعات السكن الاجتماعي، يلتصقون بثقافاتهم، التي يأخذ الدين حيزاً كبيراً منها!.
لكن القائمين على هذا المعرض غير المسبوق في المدينة، يمضون على سطح المعطيات الحاضرة دائماً في علاقة الشرق بالغرب، باتجاه مختلف، فهم يؤسسون للعلاقة بينهما، من فضاء الوثيقة، والأثر، ومن الأغراض التي حملها المستشرقون والرحّالة من الشرق وجلبوها إلى إقليم الألزاس، وإلى منطقة حوض الراين المشتركة بين الألمان والفرنسيين، ويراجعون النصوص الأصلية، من تلك الكتابات التي تم تدوينها من أجل معرفة الآخر، وفي خدمة الغايات العلمية، والصناعات المتنامية في أوروبا، وأيضاً التوجهات الاستعمارية للدول الرأسمالية في نهوضها العامّ.
لكن الشكل الصلف المجرد الذي تظهر فيه علاقة الثقافات، يحتاج أيضاً إلى تحري نقاط التلاقي، التي أدى طمس تفاصيلها الحقيقية في السياق إلى صناعة صورة نمطية عن الشرق الساحر، المبهج، المليء بحكايات الفرسان البدو النبلاء، كما هو مَحشوّ بتفاصيل عن الجماعات المتوحشة التي لا تلتزم بعُرْف أو اتفاق!.
وهكذا ستحتاج دراسة النُّتَف المبعثرة عن هذا التاريخ وكذلك ضرورات إبرازها للزائر، وضع عناوين مؤسسة للتلقي المختلف، فيحتوي دليل المعرض على معرِّفات ستة، هي “الأرض المقدسة بعيدة ومشتركة”، و”العلوم العربية الإسلامية: إرث مثير للجدل”، و”أسلحة وزهور” و”نظرات جديدة نحو الشرق في القرن التاسع عشر”، والشرق كزخرفة”، و”استكشافات، وعلوم، ومجموعات أثرية”، يتم إدراج كل الصور واللوحات، والمخطوطات، والقطع النقدية والخزفيات، والسجاد الأحمر بزخارفه الغنية، وتراث الفرسان، وجلساتهم المصوَّرة في الصحارى، في هذه الأُطر، لكن الخلاصة التي يخرج بها زائر المكتبة الوطنية في ساحة الجمهورية في مدينة ستراسبورغ حيث المعرض، ستجعله يعيد النظر بما يعرفه، وأيضاً سيحاول العودة مرة ثانية، للتعويض عما فاته في المشاهدة الأولى.
وهكذا ربما تتحقق غاية المعرض الذي أشرفت عليه الباحثة نوران بن عزونة وكلود لورينتز، لكن الثابت في التجربة أن وجود 250 قطعة تراثية مرتبطة بالشرق، قد تم جمعها من متاحف عدة ومؤسسات موزعة على أكثر من ثلاثين بلداً، ليس حدثاً عادياً، وأن الجهود التي بذلها الفريق الذي تولى مسؤولية المعرض، غير مسبوقة فعلاً، خاصة أن الشروحات التي توفرت في كتاب المعرض، والتي تم تدوينها بجانب كل المعروضات، ضِمن فضاء شرقي، إنما تكرس حاجة فعلية، للتعرف من جديد إلى الشرق، ومن خلال البوابة العلمية، فهنا لا يوجد سحر، بل توجد ثقافة، ولا وجود للأبطال الرومانسيين، بل يوجد أفراد من شعوب وأمم، حملوا أحلاماً صغيرةً، وعاشوا في سبيلها.
وأيضاً يتم التفكير بالعلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المشتركة بين الأمم، والتي جاءت بالمثاقفة بينها، فلم تعد القارات منغلقة على نفسها، وما حاولت القوة صياغته في الحروب الصليبية بوصفها التجربة الأهم في تاريخ المتوسط والشعوب التي تعيش على شواطئه وغيرها، تلاشت مظاهره مع هزيمة الجيوش الجرّارة، لكن الأعمق هنا هو انتقال العلوم الشرقية والعادات الثقافية الحضارية، والتلاقح الذي أدى في النهاية إلى استفادة الأوروبيين من إرث الشرق، ووضعهم إياه في مسار نهضتهم الراهنة.
المعرض الذي افتُتح مساء يوم 18 أيلول/ سبتمبر 2021 ويستمر إلى 16 كانون الأول/ يناير 2022، سترافقه أنشطة متعددة، تتوزَّع بين المحاضرات، والندوات والأمسيات الثقافية، مع عرض لأفلام المخرج الراحل يوسف شاهين، ولاسيما منها تلك التي بحثت في علاقة الشرق بالغرب، مثل “وداعاً بونابرت”، و”اليوم السادس”، و”المصير”، وغيرها.