تتواصل قوات سورية الديمقراطية "قسد" وإدارتها الذاتية مع روسيا للوصول إلى تحالفات شاملة وتفاهم يجنِّب قسد مخاطر الانسحاب الأمريكي من سورية، لا سيما مع تأكيد روسيا أنَّ الانسحاب يتمُّ بتفاهمات سريَّة بين الولايات المتحدة الأمريكية وحليفتها في الناتو تركيا التي تخطِّط مع الجيش الوطني لمعارك جديدة خارج إطار التنسيق الروسي التركي بناء على تفاهمات سوتشي 2019 كما هو الحال في التصعيد التركي المستمر منذ مطلع آب/أغسطس 2021.
وبعيداً عن صحة التحذيرات الروسية لقسد أو عدم صحتها فإنَّ التغيُّرات الكبيرة في السياسة الدولية للولايات المتحدة الأمريكية تفرض تحولاً كبيراً في خارطة العلاقات والتحالفات بين الأطراف المختلفة في سورية، فبعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان بات متواتراً خبراً وتحليلاً أنَّ الانسحاب الأمريكي من شمال سورية قادم لا محالة، وحلفاء الولايات المتحدة في سورية لن يكونوا أحسن حالاً من حلفائها في أفغانستان إن وثقوا بتطميناتها ووعودها كما وثق بذلك من كان يسيطر ويحكم كابول قبل طالبان.
ولعل اهتزاز ثقة قوات سورية الديمقراطية "قسد" بالولايات المتحدة الأمريكية لم يكن بحاجة لأخبار ما حلَّ بحلفاء الأمريكان في أفغانستان، حيث سبق وتخلَّت الولايات المتحدة عن قسد في انسحابٍ لم تكد تصدِّقه قسد في تشرين الأول/أكتوبر2019، وخسرت قسد إثر ذلك مواقعها في تل أبيض ورأس العين لصالح المعارضة السورية المدعومة من تركيا، ولولا التدخل الروسي الذي استغل الانهيار في صفوف قسد وأثَّر سلباً على تقدم الجيش الوطني شمال شرق سورية لكانت خسائر "قسد" الميدانية إثر الانسحاب الأمريكي أعظم من ذلك بكثير، فضلاً عن الكثير من المصالح العسكرية والاقتصادية والسياسية التي حققتها روسيا واضطرت "قسد" أن تستجيب لها.
وبعيداً عن تصديق "قسد" للتخويفات الروسية من معارك تركيَّة وشيكة (حيث الولايات المتحدة أعلنت أنَّ تركيا ستستمر بالاستهداف دون معارك سيطرة وتوسع على الأرض) إلا أنَّ قسد تذهب لبناء تفاهمات شاملة مع روسيا وهي ما تزال في مرحلة ما قبل الاضطرار لذلك، فهي تؤمن أن التفاهم مع روسيا والانسحاب الأمريكي يلوح في الأفق أسهل وأفضل بكثير من الاضطرار للتفاهم مع روسيا بعد أن يصبح الانسحاب الأمريكي قراراً واضح المعالم محدد الزمن، وعندها سيكون سقف المطالب والمكاسب الروسية لصالح النظام أعلى بكثير منه الآن.
وربَّما يقرأ كثير من المتابعين تصريحات لقسد تشير أو تصرِّح برغبتها لجسر الهوَّة وحل الخلافات مع المعارضة المدعومة من تركيا ممثلة بالائتلاف والجيش الوطني، وبذلك يُستبعَد أن تكون تحالفات قسد مع النظام قريبة أو سهلة، لكن بالنظر أكثر لتسارع اللقاءات بين روسيا وقسد وحتَّى بين النظام وقسد فإنَّ المرجَّح أنَّ الملاطفات السياسية من قسد للمعارضة السورية ما هي إلا استثمار سياسي من قسد لتحصيل مكتسبات تفاوضية من روسيا تضمن لقسد عدم التغول الأمني وفرض المركزية مُجدَّداً من قبل النظام على محافظات شمال شرقي سورية التي تحكمها قسد، وهذه اللامركزية التي تطمح لها قسد هي أساساً ضمن الرؤية الروسية لخريطة الحل في سورية والتي بدت واضحة في مسودة الدستور السوري الذي صنعته روسيا واقترحته على وفد المعارضة في أستانا مطلع 2017.
وطبعاً ليس تقرّب قسد من المعارضة السورية أو من النظام بهذه السهولة، وهناك جملة كبيرة جداً من التعقيدات والمصاعب هنا وهناك، فأمام علاقاتها مع المعارضة هناك سيل طويل من الاستعداء الذي ساهم بعقوبات أمريكية على فصيل من الجيش الوطني من المتوقع أن يستمر ويطال فصائل أخرى، كذلك ليس بهذه البساطة أن تطبِّع قسد علاقاتها ومصالحها مع النظام السوري مع استمرار قانون قيصر ومع السياسات الأمنية للنظام التي تتعامل معها قسد بحذر بالغ، وكما فضَّلت قسد سابقاً الاستقلال عن الشراكة الاضطرارية مع أحد فستحاول الحفاظ قدر المستطاع على ذلك بالاعتماد على تحالف شامل مع روسيا مباشرة يضمن لقسد مصالحها، ويحميها من أي معارك تأتيها من الشمال، في مقابل ما ستقدمه عبر روسيا للنظام من الدعم الاقتصادي والسياسي المسموح به والذي ستتعامل معه الولايات المتحدة بغض الطرف مع حرص قسد على بقاء تحالفها السياسي مع الولايات المتحدة ومع دول الاتحاد الأوروبي عبر اللوبيات والقنوات السياسية في العواصم الغربية، بالتوازي مع تحالفاتها الميدانية والاقتصادية مع روسيا على الأرض.
وفي النهاية، لا يمكن النظر للخيارات التي تحاول فيها قسد استباق الكارثة على أنها خيارات مضمونة أو مستقرة، فحتى لو تمت التفاهمات الروسية مع قسد فسوف تعمل روسيا مع الوقت على الضغط شيئاً فشيئاً واستثمار كل العوامل بما فيها النفوذ الإيراني في المنطقة للتحلل من التزاماتها وخلق مساحة أكبر وأكبر لدخول النظام بقبضته الأمنية وعودة سيطرته التدريجية على مختلف المناطق، وربما سيكون مشهد درعا اليوم خير مثال على مستقبل تسويات "قسد" مع روسيا مستقبلاً